قراءة نقدية
بقلم : نائل الجرابعة
المؤلف: تشارلي بروكر المخرجون: متعددو الأسماء بحسب الحلقة، أبرزهم أوين هاريس، كارل تيبتس، جيمس هاوز سنة الإنتاج: انطلقت السلسلة في 2011 وما تزال مستمرة بمواسم متفرقة.
لم تكن
"Black Mirror"
سلسلةً درامية بالمعنى التقليدي، بل أقرب إلى صفعة فكرية يتلقّاها المشاهد عند انطفاء الشاشة. لم تبنِ سرديتها على الاستمرارية ولا على الشخصيات المتكررة، بل على الفكرة ككيان حيّ، يتحوّل إلى مرآة قاتمة تعكس تشوّه الحاضر وتمادي الممكن. كل حلقة حكاية مستقلة، لكنها في جوهرها حلقة من سلسلة وجودية واحدة: سؤال الإنسان حين يُحبَس داخل اختراعاته، ويُعيد برمجة نفسه وفقاً لما أنتجه.
الفضاء في
"Black Mirror"
ليس مكانًا فحسب، بل نظامٌ كامل من التفاعلات التقنية والرمزية. الزمن ليس متسلسلًا، بل ممتدٌ بين مستقبل قريب وماضٍ بديل. اللغة تنوس بين الواقعي والاصطناعي، أما البطل فغالبًا ما يكون شخصًا عاديًا تُسحب منه agency القرار لحظةً بعد لحظة، ليجد نفسه في مواجهة شبح الحداثة المطلقة.
الحلقات تتعدد، لكن نستطيع – لأغراض هذه الدراسة – التركيز على نماذج محددة مثل:
"White Christmas"، "Nosedive"، و"San Junipero"،
كونها تُجسّد تداخل المدارس النقدية بوضوح دون أن تُسقط الحكاية.
فيما أرى، التهجين النقدي في
"Black Mirror"
لا يسعى إلى استعراض المدارس، بل إلى اشتباك خفيّ يُوظّف كل تيار بما يخدم ضربة الحلقة. ففي
"Nosedive"
نرى نقدًا رمزيًا–تفكيكيًا لمنظومة التواصل الرقمي، حيث يتحوّل التفاعل الإنساني إلى نظام تقييم يُفرغ اللغة من معناها ويحوّل الصداقات إلى سوق استهلاكي. بينما تُحافظ الحلقة على طابع ساخر واقعي، فإن المأساة الكامنة خلف الابتسامات المُصطنعة تُذكّرنا بنَفَسٍ عبثي خافت. هنا تتجاور الرمزية مع الواقعية النقدية، دون أن تتصارعا، بل في تكاملٍ يوصل الألم الإنساني.
أما في
"White Christmas"،
فهناك ملامح عبثية تفككية أقرب إلى كافكا تقف في مواجهة سؤال الهوية والعدالة. العرض يُفكّك الحقيقة، يُكرّر السرد، ويعلّق المتلقي بين شاشتين: شاشة الحلقة، وشاشة تأمله الخاص. وبنهاية المطاف، لا تعود الحقيقة ممكنة، ولا الذنب واضح، ويصبح "القصاص" حدثًا افتراضيًا لا أخلاقيًا.
هنا أرى أن العمل بلغ ذروة التهجين غير الصارخ، حيث تتفاعل الرمزية مع التفكيكية مع بعض ملامح العبثية، دون أن تصرخ أي مدرسة بحضورها. هذا ما يجعل المتلقي يشعر بشيء ما يُربكه، دون أن يُدرك تمامًا من أين جاء. لكن في
"San Junipero"،
تبتعد السلسلة قليلاً عن طابعها السوداوي، لتطرح تزاوجًا فريدًا بين الواقعية السحرية والما بعد–دراما. فالزمن هنا مُعلّق بين الحياة والموت، بين الواقع والمُحاكاة، والعاطفة تتسلل من ثغرات التكنولوجيا. إنها قصة حبّ، نعم، لكن عبر شيفرات، وأجهزة، وخوف من النهاية. تكمن عبقرية الحلقة في كونها جعلت الحضور الإنساني ممكنًا رغم الغياب الجسدي، وجعلت الذاكرة بديلاً عن الزمن.
في كل هذه الحلقات، كان التهجين متماسكًا، رغم تفاوت درجة نضجه. أحيانًا شعرتُ أن بعض الحلقات لو زادت قليلاً من حضور الواقعية الفجّة لكان الصدام أقوى. وأحيانًا أخرى، بدا أن الرمز طغى على الفعل، كما في حلقة "Metalhead"، التي غرقت في الرمزية ما بعد–الأبوكاليبس دون جذور واضحة للصراع.
ما تعلّمناه من
"Black Mirror"
هو أن المدرسة النقدية ليست ديكورًا يُضاف للعمل، بل منظورٌ يُبنى به العالم منذ اللحظة الأولى. من الأدوات اللافتة التي استخدمها المخرجون: الصورة المُعقمة التي تُخفي القذارة الأخلاقية، المونتاج المُكرر ليُحدث التغرّيب، والصمت الطويل الذي يُحرّك القلق أكثر من أي موسيقى.
المدرسة الغالبة في السلسلة يصعب تحديدها، لكنها تميل إلى التفكيكية الرمزية بملمس واقعي ساخر. ومع ذلك،
"Black Mirror"
ليست ابنة مدرسة واحدة… بل هي ابنة لحظتنا المُشوّشة، حيث تتشابك المدارس كما تتشابك أسلاك أجهزتنا. وتبقى الدراما الهجينة، إن حُكمت بأدوات حسّاسة، وسيلة لإنتاج صدمة جمالية لا تُنسى.